
يقف تناقص مستقبلات الدوبامين كسببٍ رئيس وراء إدمان الإباحية، فمثلاً الإفراط إلى درجة معينة في تناول طعام عصرنا شديد الإغراء المسبِّب للسمنة، ومشاهدة المقاطع الجنسية شديدة الإثارة يمكن أن يخدر معظم استجابة الدماغ للمتعة، وفي الأسبوع الماضي، أكَّد بحث جديد على أن الإثارة المفرطة تخدر فعلًا أدمغة الناس الواقعين تحتها تدريجيًا؛ مما يقلل شعورهم بالاكتفاء، وقد أشار البحث كذلك إلى المخرج من ذلك.
خلال ستة أشهر، تغيَّرت أدمغة النساء اللاتي كن يتناولن أطعمة مسمنة (مسببة للسمنة)؛ حيث أظهرن استجابة أقل للمتعة (من اللاتي لم يتناولن)، مما جعل هؤلاء النسوة أكثر عرضة للإفراط في الأكل. في الحقيقة، تسببت تغيرات الدماغ في ضعف ضبط النفس لديهن؛ مما ألقى بهن في دوامة من التدهور. كما قال الباحث الرئيسي “إِرِيك ستايس”.
هذا هو أول برهان محتمَل يُظهِر أن الإفراط في الأكل بحد ذاته يزيد من إضعاف مجموعة دوائر المكافأة، ويسبِّب تدهورُ استجابية مجموعة دوائر المكافأة ارتفاعََ خطر حدوث زيادة الوزن مستقبلًا بشكل استباقي.
إن شهية الإنسان لكل من الطعام والجنس تتأثر بشدة بعدد مستقبلات الدوبامين (د٢) في مخطط مجموعة دوائر المكافأة؛ عندما تنقص المستقبلات بعد الإفراط في شيء مرغوب، فلا تعود استجابة الدماغ كما كانت، ونشعر بمكافأة أقل من المتعة لوقت ما. وذلك يدفعنا إلى بذل مزيد من الجهد في البحث عن مشاعر الاكتفاء، على سبيل المثال: عن طريق السعي وراء مزيد من الطعام الباعث على الاكتفاء، أو مزيد من المثيرات الجنسية الشديدة؛ مما يزيد من تخدير الدماغ. إن المضاعفات الناتجة عن تناقص الحساسية تتجاوز السعرات الحرارية والذروات، وتستدعي شتى أنواع الأعراض غير المرغوب فيها.
فعندما يكون لدينا ما يكفي من “النواقل العصبية التي تنظم مجموعة دوائر المكافأة”، تكون عواطفنا متزنة. أمَّا عندما تُستنزَف أو يختل توازنها يمكن أن ينتج عن ذلك ما نسميه: “العواطف الزائفة”. يمكن أن تكون هذه النفوس متدهورة تمامًا كتلك التي تنتج عن الاضطهاد أو الفقد / الخسارة أو الفاجعة، يمكن أن تدفعنا إلى “الانغماس” -وفقا لما ذكرت “جوليا روس”- والمعالجة في المجال النفسي الغذائي.
إن الانحدار الطبيعي لحساسية الدماغ الناشئ عن الإفراط يفسر سبب أخذ الاختلالات المَرَضيّة للشهية عادةً منحًى مُزمِنًا ومقاومتها للعلاج، لكن البحث الجديد يشير أيضًا بشكل غير مباشر إلى طريقة عكس تغيرات الدماغ السلبية؛ حيث أوقف السلوك الذي يسببها بأسرع ما يمكن دون الانتظار إلى أن تتخطى الحد إلى السمنة أو الطيش الجنسي.
أما إذا تسبب الإفراط المتمادي بتغيير الدماغ جاعلًا الضبط أكثر صعوبة فأكثر؛ فإن التخلي عن السلوك المُشْكِل يسترجع حساسية الدماغ تدريجيًّا، أو يحسنه كثيرًا على الأقل، وكثيرًا ما نلاحظ هذا التحول لدى المكثرين من استخدام الإباحية الذين يريحون أدمغتهم عن طريق اجتناب الإباحية، وقطع طريق العودة إلى الاستمناء لمدة شهر أو شهرين.
يمكن أن يكون البؤس الانسحابي شديدًا في الوقت الذي تتعطش فيه أدمغتهم للإثارة، ولكن من الواضح من خلال تقاريرهم الشخصية أن أدمغتهم سرعان ما تصبح أكثر حساسية. حيث يلاحظون تحسنًا في العديد من النواحي: الاستجابية الجنسية، والتفاؤل، والتلهف للاقتراب من الشركاء الزوجيين المحتملين، وانخفاض مستوى القلق، ونحو ذلك؛ إنهم يُدهَشون من التغيرات الناتجة عن استعادة الحساسية الطبيعية لأدمغتهم.
حالما يستوعبون أن الهدف هو استعادة حساسية مجموعة دوائر المكافأة، يشعرون بارتياح ناتج عن معرفة الاتجاه؛ فيمكنهم حينئذ ربط تغيرات المزاج والأعراض الأخرى بأفعالهم (أو عدمها)، ويبدؤون في إدراك الانزعاج وهيجان الشهوة الذي يمكن أن يتوقعوه بعد التعرض للإثارة الشديدة، ويعرفون أفضل طريقة لتهدئة هذا الانزعاج، والفترة المستغرقة عادةً للعودة إلى التوازن، وذلك عن طريق علمهم بالأعباء الكامنة وراء التعرض لفرط الإثارة، كما يمكنهم أن يختاروا -عن وعي- إطلاق العنان لرغباتهم الجالبة للمتاعب، أو يختاروا بدلًا من ذلك منافع عدم التعرض للإثارة الشديدة.
باختصار، فهم يفهمون الدوامة الإدمانية وكيفية التعامل معها فهمًا تامًا حالما يسترجعون زمام القيادة، وتعود إليهم ثقتهم وتفاؤلهم. يقول أحدهم:
عند النظر إلى الصورة الكاملة، تجد أنك في الواقع لا تحصل من الإباحية على الكثير، ولا يمكنها حتى أن تجلب لك السعادة، بل هي شيء قد يبدو أنك تحتاجه بشدة، وأنه لا يمكن مقاومته، ولكنه في الحقيقة ضار، ويمكن للدماغ العقلاني أن يُبْطِلَ مفعولَ إشاراتِ مجموعة دوائر المكافأة بشكل منطقي؛ بحيث يمكن تجاوز هذا الأمر.
سيكون من الرائع لو أجرى العلماء بحثًا يكشف عن المدة التي يحتاجها العقل ليتعافى من الاستثارة المفرطة عبر الطعام المسمن والمثيرات الجنسية الشديدة. نحن نعلم أن عودة مستقبلات الأدينوسين لعددها الطبيعي بعد التوقف عن تناول الكافيين يستغرق حوالي 14 يومًا، وعندما نعلم مدة استمرار هيجان الشهوة واضطراب المزاج، يغدو من الأسهل أن نحشد قوة الإرادة لتجاوزهما. وإلى ذلك الحين، يمكن أن نقوم بتجاربنا الخاصة لاكتشاف ما تتطلبه استعادة حساسية الدماغ والنجاة من الدوامة.
لا شك أننا جميعًا على المحك عندما يتعلق الأمر بحساسية الدماغ والوقت المستغرق للتعافي، وأدمغة البعض منا أكثر عرضة فطريًّا لذلك؛ لأن لديها مستقبلات دوبامين أقل في الأجزاء الرئيسة من مجموعة دوائر المكافأة، بينما تُحدث الصدمات أو الضغوط أو الوحدة أو المواد الصيدلانية (الأدوية والعقاقير)خللاً في وظائف أدمغة آخرين، ولكن الأدمغة الطبيعية أيضًا مُعَرَّضَة لخطر انعدام الشعور بالاكتفاء الناتج عن الإثارة المفرطة.
في الواقع، إن ثلثي البشر زائدو الوزن، و 17% من مستخدمي الإباحية على الإنترنت فعليًّا تبدو منهم علامات سلوك قهري/اندفاعي. إن القابلية للوقوع في قبضة الطعام المغري والمثيرات الجنسية ليست مَرَضيّة، ولا تُعتبر إعاقة أيضًا؛ بل إنها طبيعية، وقد لعبت -على الأرجح- دورًا رئيسًا في تمكين أسلافنا من إنجابنا. ومن الطبيعي أيضا -للأسف- التهاوي في دوامة الاستجابة للإثارة المفرطة؛ بسبب طبيعة استجابة أدمغتنا، وهذا يعني أننا لسنا على المحك فحسب، بل نتعرض كذلك لمنحدرٍ زَلِق.
إن عدم توازن الدماغ يعمق إدمان الإباحية، ولكن -بفضل الله- يستطيع كل واحد منا أن ينزلق إلى الأعلى ، وذلك عن طريق تغيير سلوكه، فكلما كان انغماسنا أطول، كلما طال الزمن الذي يحتاجه معظمنا لاستعادة الحساسية الطبيعية لدماغه، ومع ذلك، فإن العديد من الأشخاص ينجحون في ذلك.
نحن الذين نقرر
لدينا كبشر -بفضل الله- القدرة على التحكم في حساسية أدمغتنا أكثر بكثير مما كان مُعترَفًا به، وقد أظهر هذا البحث أهمية السلوك في هذا الجانب.
_هوامش:__________________
* المخطط (Striatum): أحد مكونات العقد العصبية القاعدية في الدماغ، يتألف من قسمين هما النواة الذنبية (caudate nucleus) والبطامة (putamen)، ودوره الأساسي في كونه مُستقبلاً للمعطيات من القشرة المخية. (هذا التعريف نُقل بتصرف عن موقع: “الباحثون السوريون”)
** مجموعة دوائر المكافأة: تقع في الدماغ، وهي مسؤولة عن دفعنا للقيام بأمور معينة: كإنجاز مهمة، أو الأكل، أو ممارسة الجنس؛ وينتج عنها شعور جيد عندئذ.
مراجعة: أ.محمد حسونة أبو منار